أصيب أخي وصديقي الكاتب والناقد د. محمد السيد إسماعيل بمرض تليف الكبد.. لسوء الحظ كان يعالجه في أوقات الفراغ أو في المناسبات! لم يسعَ لطلب مليم من الدولة، وحين حاول بعض المحبين فعل ذلك من قبل، ومن بعد عندما شارف على الرحيل في مايو الماضي، أفشل كل هذه الترتيبات!
كان مشغولًا بأسرته، كان يريد أن يحميهم من أي مصير يصعب عليهم مواجهته.
قالت شقيقته نادية عن زيارتها له وهو على فراش الموت: "لم يكن أبدًا راغبًا في طلب شيء لنفسه، حتى الوجاهة الاجتماعية يرفضها، لقد كنت أحايله وأضغط عليه لكي يستبدل بتليفون "عليه القيمة" تليفونه الذي حمله سنوات دون خجل، وكان "عديم القيمة" ماديًّا، لكن شقيقي جعل له قيمة بإمساكه له، وكنت أحثه على تغييره لأجل شغله وأعماله الإبداعية". تضيف نادية السيد إسماعيل: "عندما ذهبت وأولادي للبلد لزيارته أثناء مرضه الأخير، شعرت أنه يودعني، وقال لنا جملة هي نفسها التي قالتها لنا أمي لحظة مفارقتها لنا، قالت.. وقال: "خلاص يا نادية!"، لحظتها تأكدت وهو يعطيني بيده المرتعشة مئتي جنيه لأنني سأسافر من "طحانوب" -قريتنا- إلى القاهرة، أنها آخر مئتي جنيه مد يده ليعطيها لي ـ رحمات الله عليه ـ، كان دائمًا مشغولًا بنا، نحن كل أهله وعائلته".
بنى محمد بيته من شقى وعرق السنين، فلم نعرف أن أحدًا ساعده بمالٍ أي مال، ولم يتكسب من كتاباته النقدية لمن عكف على دراسة أعمالهم، كما يفعل بعضهم أو كثيرهم الآن! بنى بيتًا ليجمع أولاده حوله، ليأنس بهم، ويأنسوا إليه، رغم أننا لم نعرف أن أيًّا منهم كان على مستوى كتبه، أو دراساته، أو أشعاره، أو دراساته النقدية.. إلا "نادية" شقيقته التي شهدت حضور أصدقاء الرفقة والرحلة من أسرة "الأنور" - التي أعتب عليها أنها لم تحضر عزاءً أو تأبينًا لصديقهم القديم - إلى بيتهم ليكونوا معه في حضرة الشعر!
بدا لي أنه يجتاز آخر يوم له في القاهرة.. آخر ليلة يا محمد لم تكتمل، لم يكن ممكنًا أن يعرف هل حصل على الكتب التي كان يرجوها من دار صفصافة؟ أم أنه دخل الغيبوبة صباحًا ونسي ما جاء لأجله؟ مع دخوله في غيبوبته المؤقتة انزعج العاملون في دار صفصافة، فاتصلوا بـ"البعلي" في الدوحة أو دبي لست أذكر، وأعربوا له عن مخاوفهم، فلم يجد أحدًا يمكنه أن يتصرف سوى صديقنا الكاتب والروائي صبحي موسي، الذي كان يعرف علاقتي بمحمد، فاتصل بي وبالدكتور محمد عبد الباسط، وأوعزت لصبحي أنني سأوافيه إلى "صفصافة" لنقرر ماذا نفعل!
كنا مرتبكين جدًّا، ليس معنا أي أوراق عن حالة محمد الصحية، ولا أين نذهب به، خصوصًا وأنني لا أعرف عن طريقة دخول المستشفيات في مصر، المهم أنني وصلت، وسبقني صبحي، وانتظر أن نذهب معًا إلى المكان الذي يريده محمد، سواء المستشفى أو بيته أو طبيبه... إلخ!
كانت المفاجأة أن محمدًا ما إن تماثل للإفاقة من غيبوبته المؤقتة، حتى حاول أن يمرر إلينا أهمية استكمال برنامجه، وفيه مناقشته لندوة عن أحدث كتب القاصة سعاد سليمان! كانت الندوة ستعقد في منتدى الشعر، وكان هو أحد مؤسسي هذا الكيان في داخل حزب التجمع. هذا التفكير الذي يليق بمحمد، ذلك المتفاني ببساطة - كما أسميه - هو ما أغاظ صبحي موسى، الذي كاد أن يقول له: يا راجل أنت كنت في غيبوبة، كيف ستستمر حتى العاشرة مساءً هكذا، في مناقشات مستمرة، ونحن الآن في الثانية ظهرًا؟
أردت أن ألفت نظر محمد إلى أهمية أن نذهب به للمستشفى، فرفض؛ لأنه سيذهب إلى طبيبه الدكتور أحمد العوضي، مضيفًا: "أنا يا محمود مش عارف إيه الوضع الآن، ولا إلى أي مدى وصل التليف في الكبد الآن!".
بدا لنا أننا نودعه، الإنسان والأديب صبحي موسى وأنا، وأنه ربما خطط لهذا الوداع! استعادة ما جرى في صبيحة ذلك اليوم.. آخر يوم له بالقاهرة، ينبئ عن أنه فعل كل ما اعتاد فعله، حتى معاناة البحث عن ميكروباص ينقله إلى القاهرة، ومقعد يجلس عليه! ثم نزوله وصعوده درجات سلالم المترو، لكنه عندما وصل إلى درجة السلم الأخيرة كانت المعاناة ترسم خطوطها على وجهه، ويبدو أن توازنه لم يعد قائمًا مئة في المئة؛ جراء نزول وصعود سلالم المترو الكثيرة، كان يحلم بالصعود والخروج إلى الشارع، حيث هواء القاهرة الذي ينعشه ويرويه!
قبل أن يفعل، طارده الإجهاد، وكاد الإغماء التام يفترسه صباح ذلك اليوم، فلما لاحظ بعض ذوي المروءة ذلك ساعدوه وساندوه حتى يخرج من نفق الأندر جراوند إلى الهواء النقي خارج مترو الأنفاق!
جاء متعبًا مجهدًا حائرًا من طحانوب، جاء يُمَلِّي عينه وروحه من القاهرة معشوقته، التي كان ككل قروي مثلنا يطاردها وتطارده. وفي هذا اليوم العاصف تسللت إليه الدوخة والهمدان والغيبوبة، ولا نعرف بالضبط كم أنفق من روحه حتى وصل إلى دار صفصافة، في غيبة مالك الدار المسافر إلى الخارج كاد محمد أن يقرر الرحيل، داهمته النوبة وهو في الدار التي جاءها آملًا في التزود بأحدث إصدارات الكتاب.. مجيدين و"نصف نصف".. لطالما قدم محمد للناس هؤلاء وأولئك.. جامل ربما.. موضوعيًّا لطالما تمنى.. مساعدًا ومادًّا أيادي بيضاء.. كان يفعل هذا طيلة الوقت وآخر الوقت.. جاء يتنفس بعض الهواء من الأماكن التي كانت أكثر قربًا من نفسه.. ويتنفس فيها هواءه وأوكسيجينه الخاص، الذي ربما لا يتاح له استنشاقه في قريته الوادعة!
لم يكن محمد فلاحًا بالمعنى الكامل والتام للجملة، فلم يكن لديه أرض يزرعها، ولا غيط، ولا ساقية، ولا حتى شجرة نخل واحدة.. كان فلاحًا بمعنى واحد فقط.. هو الانتقال اليومي المرهق والمتعب جدًّا - كما لفت الانتباه إلى ذلك الناقد والكاتب عادل درغام الذي أدار باقتدار حفل التابين - من قريته البعيدة إلى القاهرة، متجشمًا عناء السفر المرهق الطويل الذي يأخذ من الوقت والجهد الكثير جدًّا.
يوم الإثنين الموافق ١٢-٥-٢٠٢٥، استقل الميكروباص كالمعتاد من قريته "طحانوب.. مركز شبين القناطر.. محافظة القليوبية" إلى القاهرة.. دون أن يدري أنها المرة الأخيرة التي يفعل فيها ذلك، ورغم المعاناة الشديدة والمستمرة يمارس نفس العادة، يفعل ذلك يوميًّا.. شعلة نشاط.. يذهب للعمل الرسمي صباحًا قبل تقاعده منذ ثلاثة أعوام، موظف تقريبًا بدرجة دكتور.. دخل بلاط صاحبة الجلالة من بوابة جريدة العربي الناصري.. جل عمره قضاه في النضال من أجل العدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، والحرية والديمقراطية، التحق بالتجمع ثم غادره إلى التحالف الاشتراكي.. قدم للساحة الإبداعية العديد من الوجوه الجديدة، لم يبخل على أحد بنصيحة، وطبقًا للكاتب والشاعر أحمد سراج العائد من الاعتقال أو بتعبيره "العودة من قصر الضيافة" فإنه قال: "لم يكن محمد مجاملًا، وإنما كان يقدم نوعًا من الربت على الكتف، ويساعد، فربما خرج من ساعده شعلة ضوء".
آخر ليلة له في القاهرة، والتي عشقها وأوفى لها وكتب لأبنائها العديد من الكتب، من الرواية والسلطة.. إلى قيامة الماء، ومن رقصة ابن حزم.. إلى تدريبات يومية ويد بيضاء آخر الوقت، فضلًا عن نقد الفكر السلفي، الحداثة الشعرية، وغير ذلك من أعمال، فضلًا عن مئات المقالات.. آخر ليلة له في القاهرة كانت تبدو لنا ماثلة أمامنا، وصبحي موسى يصطحبه من سيارتي بعد وصولنا إلى موقف كلية الزراعة.. حيث استطاع أن يجد له مقعدًا في السيارات التي تذهب إلى طحانوب.. ويرمقه بنظرة محبة وخوف.. ونظرة وداع من كلينا، إلى حبيبنا المبدع محمد السيد إسماعيل. وحتى اللحظة الأخيرة ونحن نسعى إلى حصوله على عناية ورعاية طبية تليق به ويستحقها، ولكن دون جدوى، فقد قرر أن يودعنا.
في رحمات الله ورضوانه يامحمد!
---------------------------------
بقلم: محمود الشربيني